العلامة السيد هاشم يمتلك سماتاً جليلةً وعظيمة نجدها في عبارات الثناء التي لطالما ذكرها العلماء المترجمون لسيرته العطرة، وتتجلّى أبرز أوجه ملامح شخصيته فيما يلي:

■ رواية الحديث:
يُعد السيد هاشم البحراني من أكابر المحدّثين وشيوخ الرواية والإجازة المعروفين، ليس على مستوى البحرين فحسب، بل على مستوى الطائفة، يقصده المحدّثون من كل مكان لطلب الإجازة منه، ومن بينهم كبار المُحدّثين كالمُحدّث الشهير الحُر العاملي صاحب كتاب (وسائل الشيعة) الذي يُعد من أهم مصادر أحاديث الأحكام لدى الشيعة الإمامية. وتنبع أهمية الإجازة بالرواية من كونها الوسيلة لحفظ الأحاديث من الضياع والتحريف، وبها يحصل اتصال الأسانيد وحفظها من القطع والإرسال لا سيما فيما مضى من الزمان حيث انعدام وسائل الطباعة الحديثة.

ولذلك اعتنى علماء الطائفة فيما مضى بالإجازة واهتمّوا بها اهتماماً بالغاً وحرصوا على تحصيل عدّة طرق للرواية ولم يقنعوا بطريقٍ واحد، وربما تحمّلوا في سبيل ذلك المشقّة والمصاعب كالسفر والهجرة إلى البلدان البعيدة، ولم تقتصر روايتهم عن محدثي الطائفة فقط، بل يروون عن علماء العامة أيضاً، فالمُحدّث الشهير الشيخ عبد الله السماهيجي (ت 1135هـ) عامله الله بإحسانه وأسكنه دار رضوانه يذكر في إجازاته عدّة طرق لروايته عن صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب الزجّاج وكتب أبي بكر السراج وكتب أبي علي الفارسي وكتب ابن الحاجب، ويذكر كذلك طرق راويته عن كتب علماء اللغة والنحو كالخليل الفراهيدي وابن سيبويه والأخفش وابن الجني وابن مالك وغيرهم.

كان العلامة السيد هاشم من المشايخ الثِقات والعلماء الأثبات، وقد حرّر الكثير من الإجازات الشفهية والتحريرية وأجاز واستجاز جملة من العلماء الأعلام، أما منْ روى عنهم بالإجازة من المحدّثين هما: الشيخ فخر الدين النجفي، والسيد عبد العظيم ابن السيد عباس الاسترابادي. وله عدة طرق تتصل بالمشايخ الثلاثة: الكليني والصدوق والطوسي ومنهم إلى الأئمة المعصومين (عليهم السلام).

■ جامع الأخبار:
لا يخفى على أحد أهمية حمل الحديث وجمعه وتبويبه، وتصحيحه وتحقيقه سنداً ومتناً، وهي من الأمور الحيوية والمهمة والتي ندب لها الشرع حتى أن بعض الفقهاء ذهب إلى وجوبه. ويُراد بالحفظ من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “من حفظ من أمتي أربعين حديثاً” هو حفظها من الإندراس بالكتابة أو حفظها عن ظهر قلب.

السيد هاشم إلى جانب كونه راوياً للحديث كان جامعاً لشتات الأخبار، متقصيّاً عن مطموس الآثار، وقد أوقف نفسه الزكية على جمع الأحاديث من الخاص والعام، وتحمّل في سبيل ذلك المصاعب والآلام، فقد كان كثير الأسفار إلى النجف ومشهد وشيراز كما عُرف، وفي ذلك ما لا يخفى من المشاقّ والمتاعب لا سيما في ذلك الزمان حيث وسائل السفر البدائية براً كانت أو بحراً؛ وذلك من أجل أن يجمع الأخبار حمايةً لها من الإندثار والضياع، ثم قام بفرزها في أبواب تسهيلاً للطلاب والكتّاب. يقول في توطئة كتابه حلية الأبرار: إني لما نظرت في كتب الحديث مما عثرت عليه من القديم والحديث، رأيت أحاديثاً كثيرة تتضمن حلية الأبرار محمد وآله الأئمة الأثنى عشر الأطهار… وتلك الأحاديث متبددة لم يحوها سلك نظام كأنها عقد انفصم فتناثرت لآليه ففاته الانتظام، أحببت أن أجمعها في كتاب يسهل تناولها على الطلاب. [1]

بل ذُكر أنه توصل إلى مصادر لم يتوصل إليها العلامة المجلسي، وهذه شهادة عظيمة نظراً لما قام به العلامة المجلسي من دور عظيم في جمع أكبر قدر ممكن من تراث أهل البيت (عليهم السلام) في أضخم موسوعة حديثية إسلامية موجودة على الإطلاق (بحار الأنوار) التي قيل أنه استعان في جمعها بعدد من طلابه كالشيخ نور الله البحراني والسيد نعمة الله الجزائري قدس الله أسرارهم، هذا الى جانب ما يقارب من ألف مصنف صنفها الشيخ المجلسي. فقد جاء عن الحُر العاملي: كان من جبال العلم وبحوره، لم يسبقه سابق ولا لحقه لاحق في طول الباع وكثرة الإطلاع، حتى العلامة المجلسي، فإنه – أي السيد هاشم – نقل عن كتب ليس في البحار لها ذكر. [2]

كما نقل من مصادر تُعد من المفقودات، أو من الكتب النادرة التي لا توجد لها نُسخ إلا في بعض المكاتب القليلة، ومن هذه الكتب: المعراج للشيخ الصدوق، مصباح الأنوار لمحمد بن هاشم، منهاج الحق واليقين في تفضيل علي أمير المؤمنين على سائر الأنبياء والمرسلين لولي بن نعمة الله الحسين الرضوي، وكتاب ما نزل في أهل البيت من القرآن، وكتاب الواحدة، وكتاب جمع الآيات المنزلة في أهل البيت، ونخب المناقب لأبي عبد الله الحسين بن جبر، وتحفة الأخوان وأمثالها.

الجدير بالملاحظة تعاصر أربعة من أعلام الطائفة الناجية في فترة القرن العاشر الهجري توجه كل واحد منهم إلى جمع الأحاديث وكتب الحديث في مجاميع وموسوعات مبوّبة حفظاً لها من الضياع والتلف، حيث قام الشيخ محمد بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني (1007 – 1091هـ) بجمع الكتب الأربعة مع شرح مختصر لبعض الألفاظ والعبارات في كتابه (الوافي)، والشيخ محمد حسن الحُر العاملي (وفاته في 1104هـ) جمع أحاديث الأحكام في كتابه (وسائل الشيعة)، والسيد هاشم البحراني وقد جمع الكثير من الأحاديث لا سيما المتعلقة بفضائل ومناقب أهل البيت (عليهم السلام) في أكثر من 75 مُصنفاً، ثم الشيخ محمد باقر المجلسي (1037 – 1110هـ) الذي جمع فأوعى حيث جمع هذه الكتب وغيرها في موسوعته (بحار الأنوار) وكتب أخرى تصل الى ألف مصنف، واقتصر دورهم في معظمه على جمع الأحاديث ونقلها حفظاً لها من الضياع واستنقاذاً لها من التشتت دون التركيز على تحقيقها وتنقيحها.

ويبدو أن ذلك كان ردة فعل لما جرى على كتب الشيعة ومكتباتهم من الحرق والإتلاف في حوادث عديدة دوّنها المؤرخون، ومن هذه الحوادث المهمة ما تعرضت له مكتبة الوزير الصاحب ابن عباد والتي وقفها على مدينة الري من الحرق بأمر السلطان محمود الغزنوي، حيث حكى صاحب عمدة النسب أن كتب ابن عباد كانت تحتاج الى سبعمائة بعير. كما تعرّضت مكتبة الشيخ الطوسي الضخمة في الكرخ للحرق على أيدي السلاجقة (460هـ) وما جرى على مخازن كتب الخلفاء الفاطميين ودار الحكمة التي أنشأها الحاكم الفاطمي أمر الله (395هـ) من الحرق والإتلاف أواسط القرن السادس الهجري على يد صلاح الدين الأيوبي وهي تشتمل على مليون وستمائة ألف كتاب وصفها المقريزي صاحب الخطط بعجائب الدنيا، وكذلك لما احتل هولاكو بغداد (656هـ) حيث أمر بإلقاء مئات الآلاف من الكتب في نهر دجلة، وغير ذلك من الحوادث التي ضيّعت الكثير من تراث المسلمين عامة وتراث الإمامية خاصة.

■ مُتتبع ومُدقق:
قيل عن العلامة السيد هاشم أنه كان من جبال العلم وبحوره، لم يسبقه سابق ولا لحقه لاحق في طول الباع وكثرة الإطلاع [3] وقال فيه الماحوزي أنه محدّثٌ مُتتبّع، له التفسيران المشهوران. [4] أما الحُر العاملي فقال عنه أنه فاضل، عالم، ماهر، مدقق، فقيه، عارف بالتفسير والعربية والرجال. [2] وقال الميرزا الأفندي فيه أنه الفاضل، الجليل، المحدث الفقيه المعاصر، الصالح الورع، العابد الزاهد. [5] الشيخ العصفور قال عنه كان فاضلاً، محدثاً جامعاً، متتبعاً للأخبار، بما لم يسبق إليه سابق سوى شيخنا المجلسي. [6] أما الشيخ عباس القمي فقال عنه: عالمٌ، فاضلٌ، مدقق، فقيه. [7]

كل هذه الأوصاف لم يكتسبها السيد من فراغ، وذلك ما يعرفه أيُّ متأملٍ في كتبه ومطّلع على مؤلفاته ومصنفاته حيث الكثير مما يؤيد استحقاقه هذه الألقاب. التتبُّع هو كثرة التقصّي والبحث عن الشيء وملاحقة آثاره، وللتبع مصاديق: التقصّي عن الروايات التي تخص باباً معيناً لإشباعه واستيفائه، التقصّي عن الرواية الواحدة من مصادر شتّى للوقوف على اختلاف ألفاظها وتعدّد أسانيدها، التقصّي عن الكتب والمصادر المختلفة، الإطلاع على أكثر من مخطوطة للكتاب الواحد ومقابلتها مع المخطوطات الأخرى للوقوف على التصحيفات، كثرة القراءة وسعة الإطلاع.

ومن الأمثلة على شدّة تتبعه أنه كان يتقصّى أكثر من نسخة واحدة للكتاب الواحد، يقول في مقدمة كتابه (مدينة المعاجز) عند ذكر أسماء المصادر التي نقل منها واعتمدها كمصادر لكتابه: كتاب الشافي في الإمامة… شاهدت منه نسخاً كثيرة بشيراز، وهو كتاب حسنٌ كثير البحث. وجود عبارة (وفي نسخة أخرى) أو (في نسخة فلان) في أغلب كتبه تؤكد على ذلك. ويقول الشيخ فارس تبريزيان: من خصائص السيد في نقله للأحاديث أنه لم يكتف بنسخة واحدة في النقل، فنراه في أماكن عديدة من كتبه ينقل النص عن كتاب معيّن، ثم يتطرّق إلى ذكر الإختلافات الموجودة بين نسخه، فيقول (وفي نسخة ثانية… وفي نسخة ثالثة…) وهذا يدل على حرصه على ضبط الأحاديث، كما يشير في موارد أخرى إلى بعض ما يقع في أسانيد الأحاديث من أخطاء ويصحّحها.

ويقول محمد علي النجار في كتابه تصحيح تراثنا: تغمّد الله السيد البحراني برحمته الواسعة فقد تسبّب في بعث السرور في نفسي وفي نفوس كل الذين يعزّ عليهم أن تتغلغل هذه التصحيفات الممقوتة كتب شيخ الطائفة، فإن نسخة السيد أعلى الله مقامه من كتاب التهذيب التي نقل هذا الخبر منها سلمت من تصحيف. وقال أيضاً: تغمّد الله البحراني برحمته الواسعة وحشره مع أجداده الطاهرين، فقد كشف الكرب عنا بإيراده نص التهذيب السالم من الشوب في برهانه.

هذا في تصحيح الأحاديث وضبطها أما في الرجال فله كتاب (تنبيهات الأريب في رجال التهذيب) والمقصود به كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (قُدِّس سرّه) وهو أحد الكتب الأربعة المعتمدة عند الشيعة، وقد صحّح الكثير من الأخطاء في أسانيده. وقد شهد في حق هذا الكتاب العلماء ونوّه بفضله العرفاء، ذكره الشيخ يوسف في اللؤلؤة قائلاً: وقد نبه فيه – أي السيد هاشم – على أغلاط عديدة لا تكاد تُحصى مما وقع للشيخ رحمه الله في أسانيد أخبار الكتاب المذكور. وقد اختصر هذا الكتاب الشيخ حسن الدمستاني (المتوفى في 1181هـ – 1767م ) وأسماه (انتخاب الجيد في تنبيهات السيد) قال في مقدمته عن كتاب السيد: فصنّف كتابه الموسوم بالتنبيهات الذي لا يسمح الزمان بمثله هيهات هيهات.

ومن الأمثلة على تتبعه وتقصيه في جمع الأحاديث، أورد في كتابه (الإنصاف في النص على الأئمة الاثني عشر من آل محمد الأشراف) ثلاثمائة وثماني وعشرين حديثاً منقولاً عن رجال الخاصة والعامة مسندة إلا نادراً، غير مرسلة عن رجال مشهورين ومشايخ معتبرين. وأورد في كتابه (التحفة البهية في إثبات الوصية) 450 حديثاً من طرق الخاصة، منها ما يزيد على 50 حديثاً من طرق العامة، كما أورد في كتابه (حلية الأبرار) 2300 حديثاً من المصادر المعتبرة. ولكن يؤخذ عليه اقتصاره على الجمع فقط دون الإفتاء أو المناقشة والترجيح كما قال به الشيخ يوسف صاحب اللؤلؤة (قُدِّس سّره).

■ تقيٌ ورع:
قال فيه الميرزا الأفندي أنه الصالح الورع العابد الزاهد. [5] وقال الشيخ يوسف البحراني: وكان من الأتقياء المتورّعين، شديدا على الملوك والسلاطين. [6] من المعروف أن التقوى هي القيام بالواجبات وترك المُنهيات، الكبيرة مطلقاً، والصغيرة مع الإصرار عليها. ولكن ماذا يعني أن يُوصف الفقيه بالتقوى والورع؟ لابد أن ذلك يعني العدالة، النزاهة في التصرّف بالحقوق الشرعية، العدل في القضاء وتولي الأمور الحسبية، والإحتياط في الفتوى. هذا ما اشتهر عن السيد هاشم حيث وصفه صاحب اللؤلؤة والحدائق فقال: وقد صنّف كتباً عديدة تشهد بشدة تتبّعه واطلاعه، إلا أني لم أقف له على كتاب فتاوى في الأحكام الشرعية بالكلية، ولو في مسألة جزئية مما وقفت عليه على ترجيح في الأقوال، أو بحث أو اختيار مذهب وقول في ذلك المجال، ولا أدري أن ذلك لقصور درجته عن مرتبة النظر والإستدلال، أم تورعاً عن ذلك، كما نقل عن السيد الزاهد العابد رضي الدين ابن طاووس. [5]

يُفهم من بعض التراجم أن السيد كان من عائلة القاروني الذين عُرفوا بالثروة والغنى، جدّه السيد علي المعروف بقارون المال الزاهد، لذلك وُصف السيد بالزهد؛ لأن الزهد ليس أن لا تملك شيء ولكن الزهد أن لا يملكك شيء كما ورد عن أهل بيت العصمة، إلى جانب كونه رئيساً دينياً للبلاد وقاضي القضاة، فيبدو أن هذه المظاهر لم تؤثر في خلقه الكريم وبقي كما هو متقللاً في معيشته، لا تغرُّه بهرجة السُلطة ولا أبهة الرئاسة؛ لأن الزهد عند الفقراء لا يُعلم صدقه من زيفه فهُم مُجبرون على عيشة التقلّل والتقشّف، بينما الأمر الذي يكشف حقيقة الزهد وصدق الزاهد هو إقبال الدنيا عليه وتزيّنها له بالنعم والثروة والجاه والرئاسة، فإن كان زاهداً حقاً أعرض عن الدنيا كلما تعرّضت له، وتقلّل منها كلما تزيّنت له، وأدبر عنها كلما أقبلت عليه، لا يخالط أهل الدنيا ولا يتقرب من السلاطين طمعاً في عطاياهم.

من مصاديق تقوى الفقهاء عدم مداهنة الحكام في القضاء، وهذا ما نلمسه في وصف صاحب الحدائق للسيد حيث قال: شديداً على الملوك والسلاطين، أو لا يخشى في الله لومة لائم، حسب تعبير الشيخ محمد حرز الدين. يُفهم من هذا الوصف أنه كان لا يُحابي السلاطين على حساب الدين، ولا يقار على كظة ظالم وسغب مظلوم، فكان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويتصدّى للبدع ويحارب الفساد ولا يرضى بالظلم والجور على أحد من الرعيّة، فكان خصماً للظالم عوناً للمظلوم. ومما يشير إلى شدّة تقواه واستقامته مقولة المُحدّث القمّي حين قال: وبلغ في القدس والتقوى بمرتبة. [7] وقال صاحب الجواهر في بحث العدالة: لو كان معنى العدالة الملكة دون حسن الظاهر، لا يمكن الحكم بعدالة شخص أبداً إلا في مثل المقدّس الأردبيلي والسيد هاشم على ما نقل من أحوالهما. [8]

■ فقيه:
الفقيه هو المجهتد، والإجتهاد عُرف بالملكة التي يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، أو كما يُعرّفه الشيخ يوسف غارس الحدائق الناضرة: بذل الوسع في تحصيل الأحكام من أدلتها الشرعية واستنباطها منها بالوجوه المقررة والقواعد المعتبرة. إنّ السيد وإن كانت ليست لديه مؤلفات في الفقه الإستدلالي إلا إنه شُهد له بالفقاهة من قِبل الفقهاء الأقطاب، يقول المُحدّث الخبير الحُر العاملي عنه: فاضلٌ، عالمٌ، ماهرٌ، مدققٌ، فقيهٌ، عارفٌ بالتفسير والعربية والرجال. [2] أما ما قاله صاحب الحدائق فلا يتنافى مع فقاهة السيد ولا يحط من مرتبته العلمية، لعدة أسباب: لشهادة العلماء الفضلاء المترجمون له بالفقاهة، كالميرزا الأفندي في الرياض والحُر العاملي في أمل الآمل والقُمّي في الكنى والألقاب. ليست المؤلفات الإستدلالية هي السبيل الأوحد لتحديد فقاهة الفقيه، فكثير من الفقهاء ليست لهم مؤلفات استدلالية، وربما تركوا الفتوى تحرّزاً واحتياطاً كما عُرف عن السيد ابن طاووس لما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في وصيته لأبي ذر: فُر من الفتيا فرارك من الأسد. وهذا إنما يسوّغ مع وجود المجتهد الجامع للشرائط العادل لا سيما على القول بحرمة تقليد الأموات، ولابد من وجود عدد من الفقهاء في عصره يتصدون للفتوى. أما السبب الأوجه فإنّ رئاسة البلد الدينية وتولي القضاء والحسبة الشرعية لا يُختار لها إلا أفقه الفقهاء فضلاً عن كونه فقيه، لا سيما في ذلك الزمان حيث كانت البحرين تعج بالعلماء وتضج بالفقهاء ولذا فلن يقدّموا عليهم إلا منْ كان أعلمهم وأفقههم وأكثرهم أهليةً لمنصب الرئاسة.

وكان من الفقهاء الكبار في البلاد الحاضرين المعاصرين للسيد هاشم (رضوان الله تعالى عليه) ممن تبوؤوا سُدّة المرجعية ووصفوا بالألمعية والأعلمية حينذاك: الشيخ سليمان ابن أبي ظبية (المتوفى في 1101هـ) والشيخ أحمد بن محمد المقابي (المتوفى في 1102هـ) والشيخ محمد بن ماجد الماحوزي (المتوفى في 1105هـ) والشيخ سليمان الماحوزي (المتوفى في 1121هـ) وغيرهم من الفقهاء الفضلاء.

يقول الشيخ البلادي: الأظهر من ترك السيد المذكور كتابة الفتوى تورّعاً كما نُقل عن السيد ابن طاووس أو ترك ذلك بالمرة حتى صار له ملكة وإن كان هو في أعلى رتبة الإجتهاد ككثير من العلماء الأمجاد منهم أستاذ صاحب اللؤلؤة العلامة الشيخ حسين الماحوزي فإنه لا خلاف بين أهل عصره عرباً وعجماً وعراقاً في اجتهاده بل إنه أوحدي الزمان كما ذكره الفاضل التقي المُتتبّع الميرزا حسين النوري في المجلد الأخير من المستدرك في ترجمته: وكان – أي الشيخ حسين – أكثر أهل عصره استجازوا منه عرباً وعجماً وكثير من بلدان المؤمنين مقلدوه ولا سيما طرفنا مع وجود الجم الغفير من العلماء الأعلام أولي النقض والإبرام، ولأن البحرين في الزمن القديم ليس كحالها الآن السقيم بلدة العلوم فإنه في ذلك الزمان لا يُقدّمون مع كثرة العلماء الأعيان والسلطان على مذهبهم إلا من اجتمعت فيه شرائط الإفتاء.

■ رئيس البلاد:
إنَّ منصب رئاسة البلاد في البحرين في حقبة من الزمان (فترة الحُكم الصفوي) لا يختار لشغله إلا من له الأهلية لذلك المقام من بين العلماء والفقهاء، يقوم بتطبيق الشريعة الإسلامية وحدودها ويتولى القضاء والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى جانب حاكم من قِبل الدولة الصفوية آنذاك حيث يتولّى الأمور السياسية والحماية العسكرية للبلاد. اختيار السيد لهذا المنصب لابد أن يكون لأهليته لهذا المنصب؛ ولأنه الأكفأ والأعلم والأتقى في عصره ووقته من بين معاصريه من العلماء الأتقياء، حيث اشتهر (التوبلاني) بتشدّده في تطبيق الشرع وإقامة حدوده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الشيخ يوسف العصفور: فقام بالقضاء في البلاد وتولى الامور الحسبية أحسن قيام وقمع أيدي الظلمة والحكام ونشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالغ في ذلك وأكثر. [6]

وذُكر أن السيد قد تسلّم رئاسة البلد بعد الشيخ محمد بن ماجد الماحوزي رحمه الله بعد وفاته (1105هـ) فتكون مدة رئاسة السيد العلامة سنتين أو أربع سنوات حسب ما وقع من اختلاف في تأريخ وفاته (1107 أو 1109هـ). ومن بعده: تسلمها الشيخ سليمان الماحوزي إلى سنة 1121هـ.

■ الأوضاع السياسية:
إنَّ مصادر ترجمة العلامة السيد هاشم لا تشير إلى تاريخ مولده، غير أن هنالك قرائن قد تكشف على وجه التقريب الفترة الزمنية المعاصرة لحياته. عاش في ستينيات القرن الحادي عشر الهجري وسبعينياته، وكان فيه مؤهلاً لتحمّل الإجازات العلمية من أساطين العلماء وممارسة البحث والتأليف، وعلى ذلك فيمكن احتمال بلوغه سن الثلاثين يومئذٍ. رجح أحد الباحثين تاريخ ولادته في الفترة (1030 إلى 1040هـ – 1620 إلى 1630م) وإذا علمنا أن تاريخ وفاته سنة (1107هـ – 1695م) أو سنة (1109هـ – 1697م)، فإنَّ عمره الشريف في حدود (67 إلى 69) عاماً، وبذلك يمتدّ عمره من العقدين الأخيرين لمنتصف القرن الحادي عشر الهجري إلى ما قبل انتهاء العقد الأول من القرن الهجري التالي، أي أن حياته لم تتجاوز القرن السابع عشر الميلادي على أي وجه. يذكر مؤرخو هذه الفترة من تاريخ بلاد البحرين والمنطقة الخليجية بعامة أنها كانت تعج بالاضطراب السياسي العام والخلل في إدارة شؤون الأمة في جزائر البحرين على وجه الخصوص، وقد تصدّى العلامة الكبير السيد هاشم الكتكاني بمواقفه الصلبة للإصلاح السياسي والإجتماعي، بقدر ما وسعه الجهد والظرف.

سبق لبلاد البحرين أن خضعت للنفوذ البرتغالي منذ عام (926هـ – 1521م)، وحينها عانى شعب البحرين صنوف الظلم والاضطهاد تحت نيران الإحتلال الغاشم، فكتب بعض أعيان المنطقة إلى الشاه عباس الصفوي يستنهضه لتخليص هذا القطر الإسلامي الصغير، وإنقاذ أهله المؤمنين من براثن الغزاة. في الوقت نفسه، بادر أهل البحرين إلى إعلان الثورة على الوالي الهرمزي (المعيّن من قِبل المُحتل البرتغالي)، والتغلب على حاميتهم في القلعة (قلعة البرتغال حالياً) فما كان من حاكم شيراز يومئذٍ إلا أن أرسل قواته ليستولي على البحرين باسم الشاه الصفوي عام (1010هـ – 1602م). وكان يوم تحرّر البحرين من الإحتلال يوماً مشهوداً، حيث عمّ البشر أرجاء البلاد، وتفاءل الناس بحياة آمنة. وتعاقب الولاة الفُرس على حُكم البلاد ردحاً من الزمن؛ وكان أولهم (سوندك) الذي عيّنه القائد الصفوي (قلي خان) والياً على البحرين. ويُنقل أنه حاول نشر العدل بين الناس، وتخفيف الضرائب التي كان يرزح تحت وطأتها عموم شعب البحرين في ظل الإحتلال البرتغالي. ولكن خلفاءه من الولاة قد عُرف عن أكثرهم العسف والجور في الرعية؛ مما دفع بأهل البلاد إلى إعلان التبرّم بعتوهم وجبروتهم، فألحّوا على الدولة الصفوية بعزل أولئك العتاة ومحاسبتهم، إذ أرهقوا الناس بظلمهم وطغيانهم، وما كان أمام تلك الدولة إلا أن تستجيب إلى مطالب الأمة بعزلهم الواحد تلو الآخر.

وتذكر المصادر التاريخية أن (سوندك)، مع ما وصف به من حُسن السيرة بين الناس، تمّ عزله عام (1064هـ – 1653م)، واُستبدل بوالٍ عُرف بتنكّب جادة العدل والإنصاف (بابا خان) وأمام إصرار الأهالي وتحدّيهم لسطوته وظلمه اضطرت الدولة الصفوية إلى عزله عام (1077هـ – 1666م). خلفه والٍ آخر اسمه (زمان بن قزل خان) الذي توفي عام (1090هـ – 1679م) ليقوم مقامه (مهدي قلي خان) الذي عُزل أيضاً عام (1113هـ – 1701م)، وفي عهده توفي علامة البحرين السيد هاشم التوبلاني (1107هـ أو 1109هـ)، وبعده كان دور (قزّاغ خان) الذي فاق أسلاف له في الزيغ والانحراف عن منهج العدل.

امتاز السيد هاشم بالشدّة المتناهية في مواجهة الولاة الجائرين الذين أذاقوا أبناء شعبه ألوان العذاب، وقام بالعمل على توعية أبناء الأمة بحقهم في العيش الكريم وممارسة الرقابة الإجتماعية المتمثلة في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان حثيث الاستمرار وعدم النكوص في العملين السياسي والتوعوي في إنٍ واحد، بل بالغ في أدائهما من دون خوف أو وجل من عاقبة هذا الصمود والتصدّي. وقد تحلّى بالورع والتقوى أمام المغريات واعتمد النهج الديني القويم منطلقاً لحركته الإصلاحية في بُعديها السياسي والإجتماعي. ويبدو أنَّ السيد هاشم قد أورث أبناءه، وهم من حملة العلم والدعاة إلى الفضيلة، نهجه في رفض الظلم ومواجهة الظالمين، غير أنّ الظرف السياسي في عهد الوالي الفارسي سيء الذكر (قزّاع) كان على درجة كبيرة من العنت والضيق؛ فلم يحتملوا البقاء في موطنهم (البحرين) بعد وفاة والدهم، وشدّوا الرحال إلى الساحل الفارسي، لعلّهم يستطيعون التأثير عند قربهم من موقع صنع القرار السياسي في المنطقة آنذاك.

■ كرامات ومقامات:
قال الشيخ البلادي أنه رأى في بعض فوائد العلامة، أن الشيخ سليمان الماحوزي قال: دخلت على شيخنا العلامة السيد هاشم التوبلي زائراً مع والدي (قُدِّس سرّه) فلما قمنا معه لنودّعه وصافحته لزم يدي وعصرها، وقال لي: لا تفتر عن الإشتغال، فإنَّ هذه البلاد ستحتاج إليك عن قريب، انتهى. (قُلت) وصدق رحمه الله فإنّه بعد برهة قليلة توفي ذلك السيد، وانتقلت الرئاسة الدينية إليه أفاض الله شآبيب رحمته ورضوانه عليه. [9]


[1] كتاب: حلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار
▪ تأليف: العلامة السيد هاشم التوبلاني
[2] كتاب: أمل الآمل
▪ تأليف: الشيخ محمد بن الحسن المعروف بالحر العاملي
[3] كتاب: أعيان الشيعة
▪ تأليف: السيد محسن الأمين العاملي
[4] كتاب: فهرست آل بابويه وتراجم علماء البحرين
▪ تأليف: السيد سليمان الماحوزي
[5] كتاب: رياض العلماء أو الرياض
▪ تأليف: الميرزا عبدالله الأفندي
[6] كتاب: لؤلؤة البحرين
▪ تأليف: الشيخ يوسف العصفور
[7] كتاب: سفينة البحار
▪ تأليف: الشيخ عباس القمي
[8] بحث: العدالة
▪ تأليف: الشيخ محمد حسن الجواهري المعروف بصاحب الجواهر
[9] كتاب: أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والإحساء والبحرين
▪ تأليف: الشيخ علي بن الشيخ حسن البلادي البحراني

قَالوْا عَن العلَّامة التُوبْلاني

الشيخ عباس القُمّي
    

عَالِمٌ، فَاضِلٌ، مُدَقِّقٌ، فَقِيهٌ، عَارِفٌ بالتَفسِيرِ والعَرَبِيَةِ والرِجَالِ، مُحَدِّثٌ مُتَتبِعٌ للأخْبَارِ بِمَا لَمْ يَسبِقْ إِليهِ سَابِقْ.