الأخبار

آل مكباس: تراث علماء البحرين تجاوز الثلاثة آلاف مخطوط

By Wed 22 Rabi Al Thani 1436AH 11-2-2015AD No Comments

قد لا يُصدِّق المرء، أن غرفة متواضعة، لا تتجاوز مساحتها الخمسة أمتار، وتلتحف جدرانها برفوف مُدلاة، تضمُّ نفائس من مؤلفات ومخطوطات لعلماء تاريخيين، أنجبتهم أرض البحرين، فأصبحوا أعلامًا فيها وفي خارجها. في أحد أركان الغرفة، يجلس الشيخ محمد بن عيسى آل مكباس، مُنكبًا طوال ساعات النهار، وأجزاء من الليل، على قراطيس عتيقة، تجاوز عُمرها الأربعمئة عام جَلَبَها من أقاصي الدنيا، ليعكف قارئاً ومُحققاً ومدققاً ومفاضلاً بين قصاصاتها، لإكمال مشواره في جمع تراث علماء البحرين الأقدمين، وتحقيقه ثم طباعته، ونشره، ليكون متناولاً بين القراء والباحثين. «الوسط» زارت الشيخ آل مكباس وأجرت معه اللقاء الآتي:

اثنان وعشرون عامًا من العمل في تحقيق التراث العلمي لفقهاء البحرين الأقدمين… أين تجد نفسك الآن؟
– ما أدركه في المحصلة، هو أنني على الجادة. هذا شعور ينتابني أحيانًا عندما يأسرني التعب، وتعييني الإمكانات الذاتية، لكن الحقيقة، هي أنني دائمًا ما أذكِّر نفسي أنني أمام مسئولية وطنية وعلمية ودينية وتاريخية وضميرية قبل كل شيء، تحتم عليّ حفظ هذا الكم الهائل من التراث العلمي الغزير، الذي تركه لنا علماء البحرين الكبار منذ مئات السنين. فالدول تبني هويتها من تاريخها، وتراثها. وأمام كل ذلك، ليس أمامي سوى أن أكمل المسيرة عن رِضًا وحسن تقبل، فالقضية لا تتعلق بمزاج الأفراد، وإنما هي متعلقة بالإحساس بالمسئولية تجاه تاريخ حضاري.

حدثنا عن مسألة تحقيق الكتب؟ متى بدأت لديك، وما هو حجم الإنجاز الذي أتممته فيها؟
– أولاً، هي بدأت بإحساسي بالمسئولية كما أسلفت، والشعور بقيمة هؤلاء العلماء ودورهم في رفد الحركة العلمية على جميع المستويات. أما بخصوص مشوار التحقيق بالنسبة لي، فإن أول كتاب قمت بتحقيقه هو «مسألة مقدمة الواجب» للعلامة السيد ماجد بن هاشم الجدحفصي البحراني المتوفى في العام 1028 هـ (1618 م) كان هذا بالتحديد في العام 1990 م. ثم توالت عملية التحقيق، بعضها كان إفراديًا لمخطوط محدد، وبعضها كان تحقيقًاً متوازيًا ومقسومًا بين مخطوطيْن في آن. وإذا ما قمت بجردة سريعة بشأن ما حققته من مخطوطات، فإن العدد يصل إلى اثني عشر مخطوطًا، بعضها كان متعدد الأجزاء بسبب حجمه الكبير، كـ مصنفات المحقق البحراني المعروف الشيخ سليمان بن عبدالله الماحوزي المتوفى في سنة 1121هـ (1709 م) والتي تقع في خمسة وعشرين مجلدًا، وكذلك كتاب «سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد» للعلامة الكبير أبوالمكارم هاشم بن سليمان التوبلاني البحراني المتوفى في العام 1107 هـ (1695 م)، وكتاب «مختصر في تعريف أحوال سادة الأنام محمد وآله عليهم السلام» للعلامة الشيح راشد بن إبراهيم بن إسحاق الجزيري البحراني المتوفى سنة 605 هـ (1208 ميلادي). بالإضافة إلى مجموعة من التحقيقات كـ «الذخائر في جغرافيا البنادر والجزائر» للشيخ محمد علي بن محمد تقي آل عصفور البحراني، و»معين النبيه في بيان رجال من لا يحضره الفقيه»، للشيخ ياسين بن صلاح الدين بن علي بن ناصر بن علي البلادي البحراني، و»سلاسل الحديد في تقييد بن أبي الحديد»، للشيخ يوسف العصفور صاحب «الحدائق»، و»ثبات قلب السائل في جواب التسع المسائل» للعلامة الشيخ عبدالله بن صالح السماهيجي المتوفى في التاسع من جمادى الثانية 1135 هـ، (8 مارس/ آذار 1723 م) وغيرها من المصنفات النفيسة الأخرى، لعلماء أهل البحرين.

كم عدد المخطوطات التي ألَّفَها علماء البحرين واستطعت جمعها؟
– ما هو بحوزتي لحد الآن يقارب الـ 500 مخطوط من بين ما يقارب الثلاثة آلاف مخطوطات، والتي مازالت غير متحصَّلة عمليًا لدي، فالشيخ سليمان الماحوزي وحده لديه ما يقرب الـ 300 مخطوطً!

وهل تلك المخطوطات موجودة في البحرين أم أنها في مكتبات خارج البحرين؟
– قسم منها موجود داخل البحرين في مكتبات خاصة، وبعضها الآخر موزع في عدة دول حول العالم. ففي إيران على سبيل المثال يوجد قسم كبير منها بسبب الهجرات التي تمت من البحرين إلى محيطها القريب، فنجد أن هناك مصنفات لعلماء بحرينيين موجودين في مدن إيران المختلفة كإصفهان وشيراز وهمدان وطهران ويزد وتبريز ومشهد وبوشهر وقم وقزوين ورشت وزنجان. كذلك يوجد قسم آخر من تلك المخطوطات في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وفي مدينة الحلة بالعراق. وبعض آخر يوجد في العاصمة البريطانية (لندن)، ككتاب السيد التوبلاني على سبيل المثال، وبعضها يوجد في العاصمة الألمانية (برلين)، وآخر في تركيا وآخر في دمشق، وآخر في المملكة العربية السعودية وأيضًا في المكتبة الخديوية بمصر، وقسم في مكتبة الجامع الكبير باليمن.

ولكن كيف وصلت إلى تلك المناطق؟
– وصلت عبر طريقين، الأول عبر الهجرات القسرية التي كانت تقع بفعل الأزمات السياسية التي حصلت في البحرين في ذلك الزمان، والتي اضطرت العديد من علماء البحرين إلى الهجرة، وفي أحيان أخرى وصلت عبر الهجرات العلمية. فكما تعلمون، فإن نمط الاستحصال العلمي المتعارف آنذاك (وقبل ذلك العصر حتى)، هو وجود تبادل في الأفكار والبحوث العلمية بين الفقهاء من شتى المذاهب، فعلى سبيل المثال، فإن الشيخ المفيد، وهو من أكبر فقهاء الشيعة الإمامية، قد تتلمذ على يد فقهاء من المذاهب السُّنية الأربعة، في حين أن العلامة الحلي، وهو من كبار فقهاء الشيعة، تفاعل هو الآخر مع عدد من فقهاء المذاهب الإسلامية في مسألة الاجتهاد وغيرها.

أنتقل معكم إلى نقطة أخرى تتعلق بموضوع التحقيق ذاته. فإذا ما أخذنا مسألة الفارق الزمني الكبير ما بين تاريخ كتابة المخطوط وبين عصرنا الحالي، فالثابت أنها دُوِّنت على وسائط قديمة وبخطوط عتيقة (وبعضها غير منقط حتى) تختلف قليلاً أو كثيرًا عن الخطوط وقواعد الكتابة السائدة؛ الأمر الذي يجعل التأكد من صحة جسد النص وقراءته قراءة سليمة يحتاج إلى مجهود، وهو أمر يدفعنا للتساؤل عن كيفية تعاملك مع تلك المخطوطات من الناحية الفنية، سواء من حيث اختلاف الخطوط أو فقدان جزء منها وخلاف ذلك؟
– مهمَّة التحقيق من المهام العلمية الصعبة، والتي تتطلب جهدًا استثنائيًا. وكما تفضلتم، فإن مسألة تقنية الخطوط، والتلف الذي قد يصيب ورق المخطوط، والقضمات التي قد تفقد النص كلمة أو أكثر، كلها أمور تزيد من صعوبة التحقيق. أما التحقيق بذاته، فهو ومن الناحية الفنية، يمر عبر ثلاث مراحل: الأولى: تعيين النسخة الأصل، بمعنى أن المحقق، يجب أن يتثبت من وجود (أو عدم وجود) نسخ مثيلة، ومدى مطابقتها مع النسخة الأصل، وعن حجم الفروقات الموجودة، سواء في متن النص، أو في الحواشي، وخلافه. وهنا، يقوم المحقق بعملية ترقيم للنسخ الموجودة كافة، لكي يستشعر تلك الفروقات بينها خلال عملية المفاضلة والمقاربة. والمقاييس في ذلك خاضعة لعُمر المخطوط، وتارة لانتسابه لذات المؤلف، والذي يكون عادة بخط المؤلف، وتارة أخرى تكون المخطوطة منسوخة من آخرين يستأجرهم المؤلف للقيام بعملية التدوين. والمحقق يراعي كل تلك الموازين عند اختلاف النسخ، عبر اعتماد أكثرها صوابًا، وباستذواق للنصوص من قِبل المحقق نفسه، على رغم أن الأمانة تقتضي الإشارة إلى أوجه الاختلاف في النسختين ووضعها في الهامش. المرحلة الثانية، هي ما تسمى بعملية ضبط النص، وهي في الحقيقة أصل التحقيق وخلاصته، وهو (أي المحقق) في هذه المرحلة يقوم بضبط النص الأصلي مع القواعد اللغوية، ومع صحيح العبارات من الناحية الاصطلاحية والعلمية. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي عملية تقييم النصوص، عبر التأكد والتثبت من مدى صحة المنسوب للآخرين من أقوال، والتي اعتمد عليها المؤلف، وهي عملية تتطلب جهدًا مضاعفاً. أذكر لكم مثالاً هنا بشأن ذلك، فقد احتجت إلى التأكد من فقرة مذكورة في كتاب «أزهار الرياض» للعلامة الشيخ سليمان الماحوزي، مستندًا فيها إلى كتاب محمد بن المرزبان المسمى بـ «كتاب فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب»، وظللت أبحث عن هذا المصدر مدة طويلة، وخصوصًا أن هذا الكتاب يعود تأليفه إلى سنة 209 للهجرة (824 م) وبفضل من الله وجدته بالصدفة خلال زياتي لإحدى المكتبات؛ إذ أعيد طبعه من قِبَل إحدى دور النشر.

من المعروف أن هنالك عدة شروط يجب توافرها حتى يخرج التحقيق على الوجه العلمي المطلوب، أهمها صحة نسبة المخطوط للمؤلف؟ كيف تتثبت من هذا الأمر في ظل عدم وجود أرشفة علمية، ولا حقوق ملكية محفوظة. كيف يمكن تجاوز هذا المحذور؟
– ما ذكرته صحيح، ونحن عندما نقوم بعملية التحقيق، وأردنا التثبت من صحة نسب الكتاب إلى صاحبه، فإننا نتتبع أمارتيْن في ذلك. أولاً، يمكن معرفة مؤلف الكتاب من خلال ما يُصرِّح به المؤلف ذاته عن نفسه في مقدمة الكتاب، كما في حالة السيد هاشم التوبلاني عندما يقول في مقدمة كتابه: (وأنا فقير الله الغني عبده هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبدالجواد الحسيني البحراني قد استخرجت من هذا الشرح كتابين الأول في أمير المؤمنين وبنيه الأئمة وفاطمة عليهم السلام وسمَّيته بسلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد). أمر آخر يمكن أن نسترشد به في ذلك، هو ما تصرِّح به كتب التراجم الأخرى عن كتاب بعينه، وأنه منسوب للمؤلف الفلاني.

هل وقفت على فارق كبير في الأفهام بين أفكار وأطروحات المخطوطات وبين مجمل البحوث العلمية الجديدة، في مجال الفقه والأصول والتي تبحثها الآن الحوزات العلمية والجامعات؟
– بطبيعة الحال فإن هناك فارقاً. فالزمن يلعب دورًا كبيرًا في اختلاف الأفكار والأفهام. فتطور الفقه منذ عهد صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني إلى عهد السيد أبوالقاسم الخوئي تطور كثيرًا، وكذلك الحال بالنسبة إلى علم الرجال وعلم الأصول. وأمامنا العديد من الفتاوى والأحكام التي تبدّلت طبقاً لمفهوم الزمكانية. فعلى سبيل المثال، في الميراث فإن الحَبْوَة (وهي اصطلاح يُطلَق على مركوب الميت ولباسه ومصحفه وعتاده وكتبه وخلاف ذلك) وقبل تقسيم التركة هي من حق الولد الكبير من الذكور، وإذا ما أسقطنا هذا المفهوم على واقعنا، فإن اختصاص الحَبْوَة بالولد الكبير من الذكور قد يكون فيها غبن كبير، على اعتبار اختلاف الحاجيات الشخصية للميِّت، والتي تضاعفت أثمانها عشرات المرات. أيضًا يتعلق الأمر بالشخص ذاته، فتوسع الشخص، وحالة الإبداع الفكري والبحثي لديه كلها أمور تفرض اختلافًا في الأفكار. بالإضافة إلى التنقل من بلد إلى آخر، يلعب دورًا في التأثر بالأفكار واختلافها. وهذا الأمر دفعني في كثير من المرات لأن أسبر الفارق بين الرؤية القديمة والجديدة.

كيف ترى مستقبل التحقيق في التراث العلمي لعلماء البحرين، من واقع تجربتك الشخصية فيه؟

per01

محمد عبدالله – صحفي في صحيفة الوسط البحرينية

– من خلال تجربتي في مسألة التحقيق، فإن الحديث عن ذلك، فيه الكثير من الشجون، فعلى رغم أهمية الموضوع الاستثنائية؛ إلاَّ أن واقع الحال يقول إن الاهتمام بالتحقيق في تراث أهل البحرين العلمي، قد يكون غائبًا، فهو أولاً لا يرقى للعمل المؤسساتي، الذي من خلاله يمكن أن تتوافر للمحقق وسائل الإسناد الأوليَّة لعملية التحقيق، كالاتصالات وتلقي المراسلات، وتصوير المستندات، والكتابة الالكترونية عبر الحاسوب. ففي حالتي على سبيل المثال، أقوم بكل تلك الخطوات؛ فضلاً عن القيام بأصل التحقيق نفسه، وهو ما يجعل الأمر بالنسبة لي مرهقًا ومضاعفًا كونها فردية بامتياز؛ فضلاً عن عدم وجود التمويل الذي من خلاله يستطيع المحقق أن يدفع بعملية التحقيق بسرعة وبنوعية. فبعض الكتب التي قمت بتحقيقها، كان تمويلها عبارة عن استدانة مالية لكي أستطيع أن أتِمّ عملية الطباعة والنشر. فكل أملي أن يحظى هذا الأمر بكبير اهتمام، لأن موضوع التحقيق، لا يتعلق بـ محمد آل مكباس، وإنما يتعلق بجميع البحرينيين ومن هم حريصون على تراث وتاريخ هذا البلد، الذي كان في يوم من الأيام مصدرًا للعلم والعلماء، واستفادت منه أمصار عدة في العالم.

admin

Author admin

More posts by admin

Leave a Reply

قَالوْا عَن العلَّامة التُوبْلاني

الحُر العاملي
    

كَانَ - العَلامَة التُوبلانِيْ - مِنْ جِبالِ العِلمِ وبُحورِه لَمْ يَسبِقهُ سَابِقْ ولا لَحِقَهُ لاحِقْ فِيْ طُولِ البَاعِ وكِثرَةَ الإطّلاعِ حَتىْ العَلامَةُ المَجلِسيْ فإِنَّهُ نَقلَ عَنْ كُتُبٍ لَيسَ فِيْ البِحَارِ لَهَا ذِكرْ.